تأجج الشوق و تجيشت العواطف و
هفت الأفئدة و أسالت دما من الآلام التي عانتها في الغربة بعيدا عن الوطن
الأم و عن الأحبة، هي قلوب الشعراء و هم في المنفى، لقطاء يتامى، تاركين
موطن الصبا و أيام الأنس و انتماءهم، حتى أسسوا غرضا شعريا جديدا عرف بشعر
المنفى، فجروا فيه قرائحهم و صبوا فيه كل ما عانوه من ألم و تعب نفسي، نتج
هذا الشعر من هجرة الشعراء بعيدا عن أوطانهم و حنينهم إليها. فما مظاهر هذا
الشعر؟ و من هم الشعراء الذي جلبتهم يد الهجرة و التغرب عن الوطن و زرعت
هموما و مآسي في قلوبهم؟
شعر الحنين أو شعر المنفى
كما سمي حديثا هو شعر يعبر عن حنين و أشواق النفس و لهفتها للوطن الأم، و
تحسرها عليه، فالأوطان العربية توجعت من صفعة الغرب و غزوه الغاشم الذي لم
يتمثل في قتل و هتك الأرواح فقط كما هي حال الحرب، بل في سلب جذور العرب و
عاداتهم و تقاليدهم، مما ولد حقدا و ذما لهم من طرف الشعراء، و هم كل منهم
بتفجير قريحته و كل ما يستطيع قلبه من بعث معاني كره الغرب و حب الوطن و
التعلق به إلى ألسنتهم فراحوا يخطون بحبر الألم على أوراق السلام، و منهم
أحمد شوقي _أمير الشعراء_ و هو منفي بإسبانيا، فقال و هو على ضفة واد
بالأندلس يعبر عن حبه ووفائه لمصر:
لكن مصر و إن أغضت على مقة عين على الخلد بالكافور تسقينا
على جوانبها رفت تمائمـــنا و حول حافاتها قامت رواقينا
كما عبر عن قيمة وطنه في قلبه قائلا:
وطني لو شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
ثم توالت هجرات الشعراء
العرب إثر أسباب اقتصادية، سياسية و اجتماعية، كانت وجهتهم في الغالب
الولايات المتحدة الأمريكية، واجه المهاجرون عناء و تعبا، فلم يكن الحصول
على لقمة العيش سهلا كما ظنوه و كما زين لهم و لكنهم وجدوا في بيئتهم
الجديدة من الحرية ما ساعدهم على ممارسة إبداعهم الأدبي، كما أن شعورهم
بالغربة و حنينهم إلى الوطن البعيد، و خوفهم على لغتهم و هويتهم العربية من
الضياع، في مجتمعات يبدو كل شيء فيها غريبا عنهم، فالتفوا في جماعات و
بدأوا يصبون قرائحهم و أشواقهم للوطن في أشعارهم، و يتذكروا بلداتهم
الصغيرة و مساقط رؤوسهم مما جعلهم ينهضون أكثر بالأدب العربي الحديث،
يرتقون في أسلوبهم الأدبي فكريا و عاطفيا، مما أسهم في رقي تجربتهم
الشعورية النابعة من عواطف صادقة، فنجد اللبناني فوزي معلوف و هو ببلاد
اليانكي يقول واصفا المهاجرين عن أوطانهم:
و دعوها و الماء ملء المآقي لنداها و النار ملء الكبود
و لو أن الأصم يسمع صوتا صرخوا بالبواخر الصم :عودي
و من الطبيعي أن يبعث عامل
الهجرة و التغرب عن الوطن الحنين و الشوق إلى قلوب هؤلاء المهاجرين، فتعود
مآقيهم وقلوبهم إلى وطنهم الأم، يسترجعون الأيام الخوالي و هم بذلك الكوخ
الصغير في تلك القرية سالمين سعداء، حتى لجأ الشاعر القروي إلى مخاطبة أحد
رفاقه العائدين إلى لبنان الأم قائلا:
و إذا مررت بمضرب الأمواج قف عند "الوطا" بالمنزل المهجور
فهناك بين "جبيل" و "البترون" لي عهد يقوم يومه بدهور
إضافة إلى هجرة هؤلاء
الشعراء و حنينهم إلى الوطن و لجوءهم لشعر المنفى ليفجروا فيه قرائحهم،
زادت القضية الفلسطينية ألما و شجنا و دموعا، و دفعت بالشعراء إلى إدماء
قلوبهم في شعر الحنين و المنفى، الذي تحول إثر هذه القضية التي تهز كيان
العرب إلى شعر المقاومة و العودة، مما زاد في مكانتهم الأدبية من خلال
قصائدهم جماليا و معنويا، فجماليا في تلك الألفاظ و الصور الشعرية التي
أحسنوا اختيارها و ملاءمتها للمعنى و العواطف الصادقة، مما ساهم في تنبيه
الضمائر للدفاع عن الحق العربي المسلوب منهم، و هنا لا نجد غير درويش لنمثل
به هذا الشعر الذي يدمي المآقي، و هو يتذكر أمه في فلسطين، و يحن إليها و
من خلالها نقرأ بين سطوره شدة كرهه للظالم الأسرائيلي، قائلا:
أحن إلى خبز أمي و قهوة أمي
و لمسة أمي
و تكبر في الطفولة يوما على صدري
و أعشق عمري لأني إذا مت
أخجل من دمع أمي
و كذلك الشاعر الدمشقي نزار
قباني، الذي مثل العربية، حين تأثر هو الآخر بنكبة فلسطين، فمدت قصيدته
أبعادا سياسية و عاطفية و أسلوبية في معان موحية، يقول في مستهلها:
لن تجعلوا من شعبنا
شعب هنود حمر
فنحن باقون هنا
في هذه الأرض التي تلبس في معصمها
إسوارة من زهر
فهذه بلادنا
فيها و جدنا منذ فجر العمر
فكل هذه النماذج التي
ذكرناها التي قالها الشعراء و هم في المهجر و مقاومتهم للغرب الغاشم و
حنينهم و حبهم للوطن، كلها مضامين لشعر المنفى. فمما سبق نستنتج أن النفي
الذي تعرض له الشعراء و هجرتهم لبلاد الغرب تحت أسباب عدة، ساهمت في زيادة
حنينهم للوطن و وفائهم له، ففجروا قرائحهم في هذا الشعر من معاناة البين عن
أوطانهم، و ضمنوا سطورهم كل تعابير الحب و الوفاء للوطن، و أيقظوا الضمير
العربي، لكن سرعان ما ولى لغفلته، فيا حبذا لو كان كل بني العرب كهؤلاء
الشعراء الأوفياء المحبين.